الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
يعني والله تعالى أعلم أن المراد خيرة الله تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم.وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى: {لَهُمُ الخيرة} إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الإنكاري، وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه: {سبحان الله} الخ فإنه إما تعجيب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز وجل عنه، ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه.ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه، وهو أن يكون يختار معطوفًا على يخلق والوقف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار بمعنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة بمعنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء، وتقديم المسند إليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة الحصر، وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بإفادة النفي الذي تضمنته، والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز إليه.{ادعوا شُرَكَاءكُمْ} [القصص: 64] وللتعبير بما وجه ظاهر، والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء انتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما شاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاءوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدمًا عنده عز وجل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة الكاملة وعدم كون فاعله محجورًا عليه أصلًا وأنى لهم ذلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء الله تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الذين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الأحوال، وإن شئت فنزل الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضًا آخر لكذا ويميز بعضًا منها على بعض ويجعله مقدمًا عنده تعالى عليه فإنه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل، ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز وجل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فإن فيه انتقاء غيره صلى الله عليه وسلم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فإن صح ما قيل: في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضًا إلا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جىء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم، وربما يقال: إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة والسلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة والسلام بأهلية الإرسال إليه وتنزيل القرآن عليه جىء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن إشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيانهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى الله عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه على أكمل وجه وأحكم.وربما يقال أيضًا: إن لها تعلقًا بجميع ما قبلها، أما تعلقها بالأمرين المذكورين فكما سمعت، وأما تعلقها بذكر حال التائب فمن حيث أن انتظامه في سلك المفلحين يستدعي اختيار الله تعالى إياه واصطفاءه له وتمييزه على من عداه، ولذا جىء بها بعد الأمور الثلاثة وذكر انحصار الخلق فيه تعالى وتقديمه على انحصار الاختيار والاصطفاء مع أن مبنى التجهيل والرد إنما هو الثاني للإشارة إلى أن انحصار الاختيار من توابع انحصار الخلق، وفي ذكره تعالى بعنوان الربوبية إشارة إلى أن خلقه عز وجل ما شاء على وفق المصلحة والحكمة وإضافة الرب إليه صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام وهي في غاية الحسن إن صح ما تقدم عن الوليد سببًا للنزول، ويخطر في الباب احتمالات أخر في الآية فتأمل فإني لا أقول ما أبديته هو المختار كيف وربك جل شأنه يخلق ما يشاء ويختار {سبحان الله} أي تنزه تعالى بذاته تنزهًا خاصًا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره عز شأنه {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بتقدير مضاف أي عن مشاركة ما يشركونه به كذا قيل، وجعل بعضهم {سبحان الله} تعجيبًا من إشراكهم من يضرهم بمن يريد لهم كل خير تبارك وتعالى وهو على احتمال كون {مَا} فيما تقدم موصولة مفعول يختار، والمعنى ويختار ما كان لهم فيه الخير والصلاح، ويجوز أن يكون تعجيبًا أيضًا من اختيارهم شركاءهم الذين أعدوهم للشفاعة وإقدامهم على ما لم يكن لهم وذلك بناءً على ما ظهر لنا وظاهر كلام كثير أن الآية ليست من باب الإعمال، وجوز أن تكون منه بأن يكون كل من سبحان وتعالى طالبًا عما يشركون والأفيد على ما قيل أن لا تكون منه.{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك {وَمَا يُعْلِنُونَ} وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، ولعله للمبالغة في خباثة باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكنون كما قيل: ما يعلنون.وقرأ ابن محيصن {تَكُنْ} بفتح التاء وضم الكاف.{وَهُوَ الله} أي وهو تعالى المستأثر بالألوهية المختص بها، وقوله سبحانه: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} تقرير لذلك كقولك: الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي.{لَهُ الحمد في الاولى والاخرة} أي له تعالى ذلك دون غيره سبحانه لأنه جل جلاله المعطي لجميع النعمب الذات وما سواه وسائط، والمراد بالحمد هنا ما وقع في مقابلة النعم بقرينة ذكرها بعده بقوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ} [القصص: 71]. إلخ.وزعم بعضهم أن الحمد هنا أعم من الشكر، واعتبر الحصر بالنسبة إلى مجموع حمدي الدارين زاعمًا أن الحمد في الدنيا وإن شاركه فيه غيره تعالى لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلا له تعالى، وفيه أن الحمد مطلقًا مختص به تعالى لأن الفضائل والأوصاف الجميلة كلها بخلقه تعالى فيرجع الحمد عليها في الآخرة له تعالى لأنه جل وعلا مبديها ومبدعها، ولو نظر إلى الظاهر لم يكن حمد الآخرة مختصًا به سبحانه أيضًا فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يحمده الأولون والآخرون عند الشفاعة الكبرى، وفسر غير واحد حمده تعالى في الآخرة يقول المؤمنين: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] وقولهم: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34].وقولهم: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الزمر: 75]، وقالوا: التحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي حديث رواه مسلم.وأبو داود، عن جابر في وصف أهل الجنة يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس {وَلَهُ الحكم} أي القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره تعالى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي له الحكم بين عباده تعالى فيحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ولأهل معصيته بالشقاء والويل {وَإِلَيْهِ} سبحانه لا إلى غيره، {تُرْجَعُونَ} بالبعث. اهـ.
|